فصل: تفسير الآية رقم (69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ قوم صالح، وعدل عن الضمير إلى الظاهر تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بعليته لنزول العذاب بهم ‏{‏الصيحة‏}‏ أي صيحة جبريل أو صيحة من السماء فيها كل صاعقة وصوت مفزع، وهي على ما في «البحر»فعلة للمرة الواحدة من الصياح، يقال‏:‏ صاح يصيح إذا صوت بقوة، وأصل ذلك كما قال الراغب تشقيق الصوت من قولهم‏:‏ إنصاح الخشب‏.‏ أو الثوب إذا انشق فسمع منه صوت، وصيح الثوب كذلك، وقد يعبر بالصيحة عن الفزع، وفي الأعراف ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 78، 91‏]‏ قيل‏:‏ ولعلها وقعت عقيب الصيحة المستتبعة لتموج الهواء، وقد تقدم الكلام منا في ذلك ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي ديارهم‏}‏ أي منازلهم ومساكنهم، وقيل‏:‏ بلادهم ‏{‏جاثمين‏}‏ هامدين موتى لا يتحركون، وقد مر تمام الكلام في ذلك معنى وإعراباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ‏}‏ أي كأنهم لم يقيموا ‏{‏فِيهَا‏}‏ أي في ديارهم، والجملة قيل‏:‏ في موضع الحال أي أصبحوا ‏{‏جاثمين‏}‏ مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط ‏{‏إِلا أَنْ‏}‏ وضع موضع المضمر لزيادة البيان، ومنعه من الصرف حفص‏.‏ وحمزة نظراً إلى القبيلة، وصرفه أكثر السبعة نظراً إلى الحي كما قدمنا آنفاً، وقيل‏:‏ نظراً إلى الأب الأكبر يعني يكون المراد به الأب الأول وهو مصروف وحينئذٍ يقدر مضاف كنسل وأولاد ونحوه، وقيل‏:‏ المراد أنه صرف نظراً لأول وضعه وإن كان المراد به هنا القبيلة ‏{‏ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ‏}‏ صرح بكفرهم مع كونه معلوماً مما سبق من أحوالهم تقبيحاً لحالهم وتعليلاً لاستحقاقهم الدعاء عليهم بالبعد والهلاك في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ‏}‏، وقرأ الكسائي لا غير بالتنوين، وقد تقدم الكلام في شرح قصتهم على أتم وجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم‏}‏ وهم الملائكة؛ روي عن ابن عباس أنهم كانوا اثني عشر ملكاً‏.‏

وقال السدي‏:‏ أحد عشر على صورة الغلمان في غاية الحسن والبهجة، وحكى صاحب الفينان أنهم عشرة منهم جبريل، وقال الضحاك‏:‏ تسعة، وقال محمد بن كعب‏:‏ ثمانية، وحكى الماوردي أنهم أربعة ولم يسمهم‏.‏

وجاء في رواية عن عثمان بن محيصن أنهم جبريل‏.‏ وإسرافيل‏.‏ وميكائيل‏.‏ ورفائيل عليهم السلام، وفي رواية عن ابن عباس‏.‏ وابن جبير أنهم ثلاثة الأولون فقط، وقال مقاتل‏:‏ جبرائيل‏.‏ وميكائيل‏.‏ وملك الموت عليهم السلام، واختار بعضهم الاقتصار على القول بأنهم ثلاثة لأن ذلك أقل ما يدل عليه الجمع وليس هناك ما يعول عليه في الزائد وإنما أسند إليهم المجىء دون الإرسال لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70‏]‏ وإنما جاءوه لداعية البشرى، قيل‏:‏ ولما كان المقصود في السورة الكريمة ذكر صنيع الأمم السالفة مع الرسل المرسلة إليهم ولحوق العذاب بهم ولم يكن جميع قوم إبراهيم عليه السلام من لحق بهم العذاب بل إنما لحق بقوم لوط منهم خاصة غير الأسلوب المطرد فيما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى عَادٍ أَخُاهُمْ هُودًا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 50‏]‏ ‏{‏وإلى ثَمُودَ أَخُاهُمْ صالحا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏ ثم رجع إليه حيث قيل‏:‏ ‏{‏وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 84‏]‏ والباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالبشرى‏}‏ للملابسة أي ملتبسين بالبشرى، والمراد بها قيل‏:‏ مطلق البشارة المنتظمة بالبشارة بالولد من سارة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏ الآية، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فبشرناه بغلام حَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 101‏]‏ إلى غير ذلك، وللبشارة بعدم لحوق الضرر به لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع وَجَاءتْهُ البشرى‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏ لظهور تفرع المجادلة على مجيئها، وكانت البشارة الأولى على ما قيل‏:‏ من ميكائيل‏.‏ والثانية من إسرافيل عليهما السلام، وقيل‏:‏ المراد بها البشارة بهلاك قوم لوط عليه السلام فإن هلاك الظلمة من أجل ما يبشر به المؤمن‏.‏

واعترض بأنه يأباه مجادلته عليه السلام في شأنهم، واستظهر الزمخشري أنها البشارة بالولد وهي المرادة بالبشرى فيما سيأتي، وسر تفرع المجادلة عليها سيذكر إن شاء الله تعالى، وعلل في «الكشف» استظهار ذلك بقوله‏:‏ لأنه الأنسب بالإطلاق، ولقوله سبحانه في الذاريات‏:‏ ‏{‏وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 28‏]‏ ثم قال بعده‏:‏ ‏{‏فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 31‏]‏ ثم قال‏:‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏ الخ، وإن كان يحتمل أن ثمة بشارتين فيحمل في كل موضع على واحدة لكنه خلاف الظاهر انتهى، ولما كان الإخبار بمجىء الرسل عليهم السلام مظنة لسؤال السامع بأنهم ما قالوا‏:‏ أجيب بأنهم ‏{‏قَالُواْ سلاما‏}‏ أي سلمنا أو نسلم عليك سلاماً فهو منصوب بفعل محذوف، والجملة مقول القول قال ابن عطية‏:‏ ويصح أن يكون مفعول ‏{‏قَالُواْ‏}‏ على أنه حكاية لمعنى ما قالوا لا حكاية للفظهم‏.‏

وروي ذلك عن مجاهد‏.‏ والسدي، ولذلك عمل فيه القول، وهذا كما تقول لرجل قال‏:‏ لا إله إلا الله‏:‏ قلت حقاً وإخلاصاً‏.‏

وقيل‏:‏ إن النصب بقالوا لما فيه من معنى الذكر كأنه قيل‏:‏ ذكروا سلاماً ‏{‏قَالَ سلام‏}‏ أي عليكم سلام أو سلام عليكم، والابتداء بنكرة مثله سائغ كما قرر في النحو، وقد حياهم عليه السلام بأحن من تحيتهم لأنها بجملة اسمية دالة على الدوام والثبات فهي أبلغ، وأصل معنى السلام السلامة مما يضر‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي سلم في الثاني بدون ألف مع كسر السين وسكون اللام وهو على ما قيل‏:‏ لغة في ‏{‏سلام‏}‏ كحرم‏.‏ وحرام، ومنه قوله‏:‏ مررنا فقلنا‏:‏ أيه ‏(‏سلم‏)‏‏}‏ فسلمت *** كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح

وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يراد بالسلم ضد الحرب، ووجه بأنهم لما امتنعوا طعامه وخاف منهم قاله أي أنا مسالم لا محارب لأنهم كانوا لا يأكلون طعام من بينهم وبينه حرب، واعترض بأنه يدل على أن قوله هذا بعد تقديم الطعام‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَا لَبِثَ‏}‏ الخ صريح في خلافه، وذكر في «الكشاف» أن حمزة‏.‏ والكسائي قرءا بكسر السين وسكون اللام في الموضعين وهو مخالف للمنقول في كتب القراءات، وقرأ ابن أبي عبلة قال سلاماً بالنصب كالأول، وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما ‏{‏فَمَا لَبِثَ‏}‏ أي فما أبطأ إبراهيم عليه السلام‏.‏

‏{‏أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ‏}‏ أي في مجيئه به أو عن مجيئه به ‏{‏فَمَا‏}‏ نافية، وضمير ‏{‏لَبِثَ‏}‏ لإبراهيم، و‏{‏أَن جَاء‏}‏ بتقدير حرف جر متعلق بالفعل وحذف الجار قبل أن وأن مطرد، وحكى ابن العربي أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ بمعنى حتى، وقيل‏:‏ ‏{‏ءانٍ‏}‏ وما بعدها فاعل ‏{‏لَبِثَ‏}‏ أي فما تأخر مجيئه، وروي ذلك عن الفراء، واختاره أبو حيان‏.‏

وقيل‏:‏ ما مصدرية والمصدر مبتدأ أو هي اسم موصول بمعنى الذي كذلك، و‏{‏أَن جَاء‏}‏ على حذف مضاف أي قدر وهو الخبر أي فلبثه أو الذي لبثه قدر مجيئه وليس بشيء، والعجل ولد البقرة، ويسمى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة، والباء فيه للتعدية أو الملابسة، والحنيذ السمين الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال كأنه ودكه كالجلال عليه، أو كأن ما يسيل منه عرق الدابة المجللة للعرق، واقتصر السدي على السمين في تفسيره لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏، ‏[‏الذاريات‏:‏ 26‏]‏ وقيل‏:‏ هو المشوي بالرضف في أخدود، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة، وفي رواية عن مجاهد تفسيره بالمطبوخ، وإنما جاء عليه السلام بالعجل لأن ماله كان البقر وهو أطيب ما فيها، وكان من دأبه عليه السلام إكرام الضيف، ولذا عجل القرى، وذلك من أدب الضيافة لما فيه من الاعتناء بشأن الضيف، وفي مجيئه بالعجل كله مع أنهم بحسب الظاهر يكفيهم بعضهم دليل على أنه من الأدب أن يحضر للضيف أكثر مما يأكل، واختلف في هذا العجل هل كان مهيئاً قبل مجيئهم أو أنه هيىء بعد أن جاؤوا‏؟‏ قولان اختار أبو حيان أولهما لدلالة السرعة بالإتيان به على ذلك، ويختار الفقير ثانيهما لأنه أزيد في العناية وأبلغ في الإكرام، وليست السرعة نصاً في الأول كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا رَءاهُ أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ‏}‏ كناية عن أنهم لا يمدون إليه أيديهم ويلزمه أنهم لا يأكلون، وقيل‏:‏ ‏{‏لا‏}‏ كناية بناءاً على ما روي أنهم كانوا ينكتون اللحم بقداح في أيديهم وليس بشيء، وفي القلب من صحة هذه الرواية شيء إذ هذا النكت أشبه شيء بالعبث، والملائكة عليهم السلام يجلون عن مثله؛ و‏{‏رأى‏}‏ قيل‏:‏ علمية فجملة ‏{‏لاَ تَصِلُ‏}‏ مفعول ثان، والظاهر أنها بصرية، والجملة في موضع الحال ففيه دليل على أن من أدب الضيافة النظر إلى الضيف هل يأكل أولاً لكن ذكروا أنه ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصراً في الأكل أي لما شاهد منهم ذلك ‏{‏نَكِرَهُمْ‏}‏ أي نفرهم ‏{‏وَأَوْجَسَ‏}‏ أي استشعر وأدرك، وقيل‏:‏ أضمر ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ أي من جهتهم ‏{‏خِيفَةً‏}‏ أي خوفاً، وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من الخوف، ولعل اختيارها بالذكر للمبالغة حيث تفرس لذلك مع جهالته لهم من قبل وعدم معرفته من أي الناس يكونون كما ينبىء عنه ما في الذاريات من قوله سبحانه حكاية عنه‏:‏ ‏{‏قَالَ سلام قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 25‏]‏ أنهم ملائكة، وظن أنهم أرسلوا لعذاب قومه أو لأمر أنكره الله تعالى عليه ‏{‏قَالُواْ‏}‏ حين رأوا أثر ذلك عليه عليه السلام، أو أعلمهم الله تعالى به، أو بعد أن قال لهم ما في الحجر ‏{‏إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 52‏]‏ فإن الظاهر منه أن هناك قولاً بالفعل لا بالقوة كما هو احتمال فيه على ما ستراه إن شاء الله تعالى، وجوز أن يكون ذلك لعلمهم أن علمه عليه السلام أنهم ملائكة يوجب الخوف لأنهم لا ينزلون إلا بعذاب، وقيل‏:‏ إن الله تعالى جعل للملائكة مطلقاً ما لم يجعل لغيرهم من الاطلاع كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 12‏]‏ وفي «الصحيح» ‏"‏ قالت الملائكة رب عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة ‏"‏ الحديث، وهو قول بأن الملائكة يعلمون الأمور القلبية‏.‏

وفي الأخبار الصحيحة ما هو صريح بخلافه، والآية‏.‏ والخبر المذكوران لا يصلحان دليلاً لهذا المطلب، وإسناد القول إليهم ظاهر في أن الجميع قالوا ‏{‏لاَ تَخَفْ‏}‏ ويحتمل أن القائل بعضهم، وكثيراً ما يسند فعل البعض إلى الكل في أمثال ذلك، وظاهر قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنَّا أَرْسَلْنَا‏}‏ أنه استئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا نُبَشّرُكَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 53‏]‏ استئناف كذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنه من الخوف أي ‏{‏أَرْسَلْنَا‏}‏ بالعذاب ‏{‏إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ خاصة، ويعلم مما ذكرنا أنه عليه السلام أحس بأنهم ملائكة، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد يستدل له بقولهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا‏}‏ فإنه كما لا يخفى على من له أدنى ذوق إنما يقال لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا فخاف، وأن الإنكار المدلول عليه بنكرهم غير المدلول عليه بما في الذاريات فلا إشكال في كون الإنكار هناك قبل إحضار الطعام وهنا بعده، وأصل الإنكار ضد العرفان، ونكرت وأنكرت واستنكرت بمعنى، وقيل‏:‏ إن أنكر فيما لا يرى من المعاني ونكر فيما يرى بالبصر، ومن ذلك قول الشاعر

‏:‏ وأنكرتني وما كان الذي نكرت *** من الحوادث إلا الشيب والصلعا

فإنه أراد في الأول على ما قيل‏:‏ أنكرت مودتي، وقال الراغب‏:‏ إن أصل ذلك أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل وبه فسر ما فيه الآية، وفرق بعضهم بين ما هنا وبين ما وقع في الذاريات بأن الأول راجح إلى حالهم حين قدم إليهم العجل‏.‏ والثاني متعلق بأنفسهم ولا تعلق له برؤية عدم أكلهم بل وقع عند رؤيته عليه السلام لهم لعدم كونهم من جنس ما يعهده من الناس، ويحتاج هذا إلى اعتبار حذف المضاف أو ملاحظة الحيثية، واعترض ما قدمناه بأن فيه ارتكاب مجاز، ولعل الأمر فيه سهل‏.‏

وذهب بعضهم إلى أنه عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة حتى قالوا له‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا‏}‏ وكأن سبب خوفه منهم أنهم لم يتخرحموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءاً إذ كانت العادة إذ ذاك كذلك، وكان عليه السلام نازلاً في طرف من الأرض منفرداً عن قومه، وهي رواية عن ابن عباس أخرجه إسحاق بن بشر‏.‏ وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عنه، وقيل‏:‏ كان سبب خوفه أنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت‏.‏

وقال العلامة الطيبي‏:‏ الحق أن الخوف إنما صدر عن مجموع كونهم منكرين وكونهم ممتنعين من الطعام كما يعلم من الآيات الواردة في هذه القصة ولأنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر بين أيديهم الطعام ولم يحرضهم على الأول وإنما عدلوا إلى قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ليكون جامعاً للمعاني بحيث يفهم منه المقصود أيضاً انتهى‏.‏

وفيه إشارة إلى الردّ على الزمخشري، وقد اختلف كلامه في تعليل الخوف فعلله تارة بعرفانه أنهم ملائكة وأخرى بأنهم لم يتحرموا طعامه، ولعله أراد بذلك العرفان العرفان بعد إحضار الطعام، وما ذكره الطيبي من أنه لو عرفتهم بأنهم ملائكة لم يحضر الخ غير قادح إذ يجوز أن يخافهم بعد الإحضار أولاً لعدم التحرم ثم بعد تفرس أنهم ملائكة خافهم لأنهم ملائكة أرسلوا للعذاب، والزمخشري حكى أحد الخوفين في موضع والآخر في آخر‏.‏

قال بعض المحققين والتعليل بأنهم ملائكة هو الوجه لينتظم قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام عَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 35‏]‏ مع ما قبله إذ لو كان الوجل لكونهم على غير زي من عرف ونحوه لم يحسن التعليل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نُبَشّرُكَ‏}‏ فإنه إنما هو تعليل للنهي عن الوجل من أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب كأنهم قالوا‏:‏ ‏{‏لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام عَلِيمٍ‏}‏ و‏{‏إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ فجاء على اختصارات القرآن بذكر أحد التعليلين في أحد الموضعين والآخر في الآخر، ولا شك أن في الحجر اختصاراً لطي حديث الرواع، والتعجيل بالعجل الحنيذ وعدم تحرمهم بطعامه لما أن المقصود من سوق القصة هنالك الترغيب والترهيب للاعتبار بحال إبراهيم عليه السلام وما لقي من البشرى والكرامة، وحال قوم لوط عليه السلام وما منوا به من السوأى والملامة، ألا ترى إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم‏}‏ إلى قوله جل وعلا‏:‏

‏{‏عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49-51‏]‏ فاقتصر على ما يفيد ذلك الغرض، وأما في هذه السورة فجىء بها للإرشاد الذي بنى عليه السورة الكريمة مع إدماج التسلية ورد ما رموه به عليه الصلاة والسلام من الافتراء، وفي كل من أجزاء القصة ما يسد من هذه الأغراض فسرد على وجهها، وفي سورة الذاريات للأخيرين فقط فجىء بما يفيد ذلك فلا عليك إن رأيت اختصاراً أن تنقل إليه من المبسوط ما يتم به الكلام بعد أن تعرف نكتة الاختصار، وهذا من خواص كتاب الله تعالى الكريم انتهى ولا يخلو عن حسن، وفيه ذهاب إلى كون جملة ‏{‏إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ استئنافاً في موضع التعليل كما هو الظاهر‏.‏

وقال شيخ الإسلام عليه الرحمة‏:‏ الظاهر ما ذكر إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 57، 58‏]‏ صريح في أنهم قالوه جواباً عن سؤاله عليه السلام، وقد أوجز الكلام اكتفاءاً بذلك انتهى‏.‏

وتعقب بأنه قد يقال‏:‏ إن ذلك لا يقدح في الحمل على الظاهر لجواز أن يكونوا قالوا ذلك على معنى التعليل للنهي عن الخوف، ولكنه وإن أريد منه الإرسال بالعذاب لقوم لوط عليه السلام مجمل لم يؤت به على وجه يظهر منه ما نوع هذا العذاب هل هو استئصال أم لا‏؟‏ فسأل عليه السلام لتحقيق ذلك فكأنه قال‏:‏ أيها المرسلون إلى قوم لوط ما هذا الأمر العظيم الذي أرسلتم به‏؟‏ فأجابوه بما يتضمن بيان ذلك مع الإشارة إلى علة نزول ذلك الأمر بهم وهو قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 58، 59‏]‏ الآية فإن انفهام عذاب الاستئصال لقوم لوط عليه السلام من ذلك ظاهر، وكذا الإشارة إلى العلة‏.‏

والحاصل أن السؤال في تلك الآية عن الخطب وهو في الأصل الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، ويراد من السؤال عنه تحقيق أمر لم يعلمه عليه السلام من كلامهم قبل إما لأنه لم يعلم ذلك منه‏.‏

أو لأنه كان مشغولاً عن كمال التوجه ليعلم عليه السلام منه ذلك، وفي خطابه عليه السلام لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة ما يؤيد تقدم قولهم‏:‏ ‏{‏أَنَّا أَرْسَلْنَا‏}‏ على هذا السؤال لكنه أسقط هناك تعويلاً على ما هنا ولا بدع في الإسقاط من المتأخر تعويلاً على المتقدم، وتأخر الحجر‏.‏ والذاريات عن هود تلاوة مما لا كلام فيه، وتأخرهما نزولاً مما رواه ابن ضريس في فضائل القرآن عن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن عمر بن هارون عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس، وذكر أنها كلها نزلت بمكة وأن بين هود‏.‏ والحجر سورة واحدة، وبين الحجر‏.‏ والذاريات ثلاث عشرة سورة فليتأمل في هذا المقام، ويفهم من كلام بعضهم أنه عليه السلام لم يتحقق كونهم ملائكة إلا بعد أن مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأنه فحينئذ عرفهم وأمن منهم، ولم يتحقق صحة الخبر عندي، والذي أميل إليه أنه عليه السلام عرفهم قبل ذلك وأن خوفه منهم لكونهم ملائكة لم يدر لأي شيء نزلوا، ويبعد عند من عرف حال إبراهيم عليه السلام القول بأنه خاف بشراً وبلغ منه الخوف حتى ‏{‏قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 52‏]‏ لا سيما إذا قلنا‏:‏ إنا من خافهم كانوا ثلاثة وأنه عليه السلام لم يكن في طرف من الأرض بل كان بين أصحابه، أو كان هناك لكن بين خدمه وغلمانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وامرأته‏}‏ سارة بنت هاران بن ناحور وهي بنت عمه ‏{‏قَائِمَةً‏}‏ في الخدمة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وكانت نساؤهم لا تحتجب لا سيما العجائز منهم، وكانت رضي الله تعالى عنها عجوزاً، وقال وهب‏:‏ كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم، وأخذ منه بعضهم أن تستر النساء كان لازماً، والظاهر أنه لم يكن كذلك لتأخر آية الحجاب، ويجوز أن يقال‏:‏ إن القيام وراء الستر كان اتفاقياً، وعن ابن إسحق أنها كانت قائمة تصلي، وقال المبرد‏:‏ كانت قائمة عن الولد وهو خلاف المشهور في الاستعمال، وأخرج ابن المنذر عن المغيرات قال في مصحف ابن مسعود‏:‏ وامرأته قائمة وهو جالس، وفي الكشاف بدل وهو جالس وهو قاعد، وعن ابن عطية بدل ‏{‏وامرأته قَائِمَةٌ‏}‏ وهي قائمة ففيه الاضمار من غير تقدم ذكر، وكأن ذلك إن صح للتعويل على انفهام المرجع من سياق الكلام، والجملة إما في موضع الحال من ضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ وإما مستأنفة للأخبار ‏{‏فَضَحِكَتْ‏}‏ من الضحك المعروف والمراد به حقيقته عند الكثير، وكان ذلك عند بعضهم سروراً بزوال الخوف عن إبراهيم عليه السلام، والنساء لا يملكن أنفسهم كالرجال إذا غلب عليهن الفرح، وقيل‏:‏ كان سروراً بهلاك أهل الفساد، وقيل‏:‏ بمجموع الأمرين، وقال ابن الأنباري‏:‏ إن ضحكها كان سروراً بصدق ظنها لأنها كانت تقول لإبراهيم‏:‏ اضمم إليك لوطاً فإني أرى العذاب سينزل بقومه وكان لوط ابن أخيه‏.‏ وقيل‏:‏ ابن خالته وقيل‏:‏ كان أخا سارة وقد مر آنفاً أنها بنت عم إبراهيم عليه السلام، وعن ابن عباس أنها ضحكت من شدة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه، والذين جاؤوه ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين، وقيل‏:‏ المائة، وقال قتادة‏:‏ كان ذلك من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال السدى‏:‏ ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت‏:‏ عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا وهم لا يأكلون طعامنا، وقال وهب بن منبه‏:‏ وروي أيضاً عن ابن عباس أنها ضحكت من البشارة بإسحق، وفي الكلام على ذلك تقديم وتأخير، وقيل‏:‏ ‏{‏ضحكت‏}‏ من المعجز الذي تقدم نقله عن جبريل عليه السلام، ولعل الأظهر ما ذكرناه أولاً عن البعض، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالضحك التبسم ويستعمل في السرور المجرد نحو ‏{‏مسفرة ضاحكة‏}‏، ‏[‏عبس‏:‏ 38، 39‏]‏ ومنه قولهم‏:‏ روضة تضحك، وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ وغيرهما عن ابن عباس أن ‏{‏ضحكت‏}‏ بمعنى حاضت، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعكرمة، وقولهم‏:‏ ضحكت الأرنب بهذا المعنى أيضاً، وأنكر أبو عبيدة‏.‏ وأبو عبيد‏.‏ والفراء مجيء ضحك بمعنى حاض، وأثبت ذلك جمهور اللغويين، وأنشدوا له قوله‏:‏

وضحك الأرانب فوق الصفا *** كمثل دم الجوق يؤم اللقا

وقوله‏:‏

وعهدي بسلمي ‏(‏ضاحكا‏)‏‏}‏ في لبابة *** ولم يعد حقا ثديها أن تحلما

وقوله‏:‏

إني لآتي العرس عند طهورها *** وأهجرها يوماً إذا تك ‏(‏ضاحكا‏)‏‏}‏

والمثبت مقدم على النافي‏.‏ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، نعم قال ابن المنير‏:‏ إنه يبعد الحمل على ذلك هنا قولها‏:‏ ‏{‏ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏ الخ فإنه لو كان الحيض قبل البشارة لما تعجبت إذ لا عجب في حمل من تحيض، والحيض في العادة معيار على إمكان الحمل، ودفع بأن الحيض في غير أوانه مؤكد للتعجب أيضاً، ولأنه يجوز أن تظن أن دمها ليس بحيض بل استحاضة فلذا تعجبت، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي من قراء مكة ‏{‏فَضَحِكَتْ‏}‏ بفتح الحاء، وزعم المهدوي أنه غير معروف وأن ‏{‏ضحك‏}‏ بالكسر هو المعروف، ومصدره ضحكاً وضحكاً بسكون الحاء وفتح الضاد وكسرها، وضحكاً وضحكاً بكسر الحاء مع فتح الضاد وكسرها، والظاهر أن هذه مصادر ضحك بأي معنى كان، ويفهم من مجمع البيان أن مصدر ضحك بمعنى حاضت إنما هو ضحكا بفتح الضاد وسكون الحاء، ولم نر هذا التخصيص في غيره، وعن بعضهم أن فتح الحاء في الماضي خصوص بضحك بمعنى حاض، وعليه فالقراءة المذكورة تؤيد تفسير ضحكت على قراءة الجمهور بحاضت‏.‏

‏{‏فبشرناها بإسحاق‏}‏ قيل‏:‏ أي عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا ‏{‏وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ‏}‏ بالنصب، وهي قراءة ابن عامر‏.‏ وحمزة‏.‏ وحفص‏.‏ وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما على أنه منصوب بتقدير فعل يفسره ما يدل عليه الكلام أي ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوب، ورجع ذلك أبو علي، واعترضه البعض بأنه حينئذ لا يكون ما ذكر داخلاً تحت البشارة، ودفع بأن ذكر هذه الهبة قبل وجود الموهوب بشارة معنى، وقيل‏:‏ هو معطوف على محل ‏{‏بإسحاق‏}‏ لأنه في محل نصب، واعترض أنه إنما يتأتى العطف على المحل إذا جاز ظهور المحل في فصيح الكلام كقوله‏:‏

ولسنا بالجبال ولا الحديدا *** وبشر لا تسقط باؤه من المبشر به في الفصيح، وزعم بعضهم أن العطف على ‏{‏بإسحاق‏}‏ على توهم نصبه لأنه في معنى وهبنا لها إسحق فيكون كقوله‏:‏ ‏(‏مشائيم‏)‏‏}‏ ليسوا مصلحين عشيرة *** ولا ناعب إلا بين غرابها

إلا أنه توهم في هذا وجود الباء في المعطوف عليه على عكس ما في الآية الكريمة، ويقال لمثل هذا‏:‏ عطف التوهم، ولا يخفى ما في هذه التسيمة هنا من البشاعة على أن هذا العطف شاذ لا ينبغي التخريج عليه مع وجود غيره، وبهذا اعترض على الزمخشري من حمل كلامه حيث قال‏:‏ وقرىء بالنصب كأنه قيل‏:‏ وهبنا لها إسحق ومن ورلء إسحق يعقوب على طريقة قوله

‏:‏ مشائيم *** البيت عليه لما أنه الظاهر منه، وقال في الكشف أراد أنه عطف معنوي ومثله شائع مستفيض في العطف والاضمار على شريطة التفسير وغيرهما، وإنما شبهه بقوله‏:‏

ولا ناعب *** تنبيهاً على أن ذلك مع بعده لما كان واقعاً فهذا أجدر، والغرض من التشبيه أن غير الموجود في اللفظ جعل بمنلته وأعمل، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر من عبارته، وقيل‏:‏ إنه معطوف على لفظ ‏{‏إسحاق‏}‏ وفتحته للجر لأنه غير مصروف للعلمية والعجمة، وعلى هذا دخوله في البشارة ظاهر إلا أنه قيل عليه‏:‏ إنه يلزمه الفصل بين نائب الجار ومجروره وهو أبعد منه بين الجار ومجروره، وفي البحر أن من ذهب إلى أنه معطوف على ما ذكر فقوله ضعيف لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور، فلا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو فإن جاء ففي شعر، فإن كان المعطوف منصوباً أو مرفوعاً ففي جواز ذلك خلاف نحو قام زيد واليوم عمرو‏.‏ وضربت زيداً واليوم عمراً، وقرأ الحرميات‏.‏ والنحويان‏.‏ وأبو بكر و‏{‏يَعْقُوبَ‏}‏ بالرفع على الابتداء، ‏{‏وَمِن وَرَاء‏}‏ الخبر كأنه قيل ومن وراء إسحق يعقوب كائن‏.‏ أو موجود‏.‏ أو مولود قال النحاس‏:‏ والجملة حال داخلة في البشارة أي فبشرناها باسحق متصلاً به يعقوب‏.‏

وأجزا أبو علي أن يرتفع بالجار والمجرور كما أجازه الأخفش، وقيل‏:‏ إنه جائز على مذهب الجمهور أيضاً لاعتماده على ذي الحال، وتعقب بأنه وهم لأنه الجار والمجرور إذا كان حالاً لا يجوز اقترانه بالواو فليتدبر‏.‏

وجوز النحاس أيضاً أن يكون فاعلاً باضمار فعل تقديره ويحدث من وراء إسحق يعقوب‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وعلى هذا لا يدخل في البشارة، وقد مر ما يعلم منه الجواب، ودوراء‏}‏ هنا بمعنى خلف وبذلك فسرها الراغب‏.‏ وغيره هنا، وهو رواية عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه تفسيرها بولد الولد وهو أحد معانيها كما في الصحاح، والقاموس، وبذلك قال الشعبي، واختاره أبو عبيدة، واستشكل بأن ‏{‏‏}‏ هنا بمعنى خلف وبذلك فسرها الراغب‏.‏ وغيره هنا، وهو رواية عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه تفسيرها بولد الولد وهو أحد معانيها كما في الصحاح، والقاموس، وبذلك قال الشعبي، واختاره أبو عبيدة، واستشكل بأن ‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى قَالُواْ سلاما قَالَ سلام فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ وامرأته قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء‏}‏ بالنسبة إليها أي وراؤها من إسحق كأنهم بشروها بأن تعيش حتى ترى ولد ولدها، أو بأن يولد لولدها ولد، قيل‏:‏ وهذا أقرب، والمنقول عن الزمخشري أظهر، والمعول عليه تفسيره بمعنى خلف إذ في كلا الوجهين تكلف لا يخفى، والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 7‏]‏ وهو الأظهر‏.‏

وروي عن السدى‏:‏ ويحتمل أنها بشرت بولد وولد ولد من غير تسمية ثم سميا بعد الولادة، وتوجيه البشارة إليها مع أن الأصل في ذلك إبراهيم عليه السلام، وقد وجهت إليه في آيتي الحجر‏.‏ والذاريات للإيذان بأن ما بشر به يكون منهما ولكونها عقيمة حريصة على الولد وكانت قد تمنته حينما ولد لهاجر إسماعيل عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَتْ‏}‏ استئناف بياني كأن سائلا سأل ما فعلت حين بشرت‏؟‏ فقيل‏:‏ قالت‏:‏ ‏{‏ياويلتي‏}‏ من الويل وأصله الخزي، ويستعمل في كل أمر فظيع، والمراد هنا التعجب وقد كثرت هذه الكلمة على أفواه النساء إذ طرأ عليهن ما يتعجبن منه، والظاهر أن الألف بدل من ياء المتكلم، ولذا أمالها أبو عمرو‏.‏ وعاصم في رواية، وبهذا يلغز فيقال‏:‏ ما ألف هي ضمير مفرد متكلم‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏يا ويلتي‏}‏ بالياء على الأصل، وقيل‏:‏ إنها ألف الندبة ولذا يلحقونها الهاء فيقولون‏.‏ يا ويلتاه ‏{‏قَالَتْ ياويلتا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ‏}‏ ابنة تسعين سنة على ما روي عن ابن إسحق، أو تسع وتسعين على ما روي عن مجاهد‏.‏ ‏{‏وهذا‏}‏ الذي تشاهدونه ‏{‏بَعْلِى‏}‏ أي زوجي، وأصل البعل القائم بالأمر فأطلق على الزوج لأنه يقوم بأمر الزوجة، وقال الراغب‏:‏ هو الذكر من الزوجين وجمعه بعولة نحو فحل وفحولة، ولما تصوروا من الرجل استعلاءاً على المرأة فجعل سائسها والقائم عليها؛ وسمي به شبه كل مستعل على غيره به فسمي باسمه، ومن هنا سمي العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله تعالى بعلا لاعتقادهم ذلك فيه ‏{‏شَيْخًا‏}‏ ابن مائة سنة‏.‏ أو مائة وعشرين، وهو من شاخ يشيخ، وقد يقال‏:‏ للأنثى شيخة كما قال‏:‏ وتضحك مني ‏(‏شيخة‏)‏ عبشمية *** ويجمع على أشياخ‏.‏ وشيوخ‏.‏ وشيخان ونصبه على الحال عند البصريين، والعامل فيه ما في هذا من معنى الإشارة أو التنبيه‏.‏

قال الزجاج‏:‏ ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر؛ ففي قولك‏:‏ هذا زيد قائماً لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامه ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيداً عند عدم القيام وليس بصحيح فهنا بعليته معروفة، والمقصود بيان شيوخته وإلا لزم أن لا يكون بعلها قبل الشيخوخة قاله الطيبي، ونظر فيه بأنه إنما يتوجه إذا لم تكن الحال لازمة غير منفكة أما في نحو هذا أبوك عطوفاً فلا يلزم المحذور، والحال ههنا مبينة هيئة الفاعل أو المفعول لأن العامل فيها ما أشير إليه وبذلك التأويل يتحد عامل الحال وذيها، وذهب الكوفيون إلى أن هذا يعمل عمل كان و‏{‏شَيْخًا‏}‏ خبره وسموه تقريباً»‏.‏

وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش شيخ بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ، أو خبر بعد خبر، وفي البحر إن الكلام على هذا كقولهم‏:‏ هذا حلو حامض، أو هو الخبر، و‏{‏بَعْلِى‏}‏ بدل من اسم الإشارة‏.‏ أو بيان له، وجوز أن يكون ‏{‏بَعْلِى‏}‏ الخبر، وشيخ تابعاً له، وكلتا الجملتين وقعت حالا من الضمير في ‏{‏ءأَلِدُ‏}‏ لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليله أي أألد وكلانا على حالة منافية لذلك، وإنما قدمت بيان حالها على بيان حاله عليه السلام لأن مباينة حالها لما ذكر من الولادة أكثر إذ ربما يولد للشيوخ من الشواب أما العجائز داؤهن عقام، ولأن البشارة متوجهة إليها صريحاً ولأن العكس في البيان ربما يوهم من أول الأمر نسبة المانع عن الولادة إلى جانب إبراهيم عليه السلام وفيه ما لا يخفى من المحذور، واقتصارها في الاستبعاد على ولادتها من غير تعرض لحال النافلة لأنها المستبعدة وأما ولادة ولدها فلا يتعلق بها استبعاد قاله سيخ الإسلام ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي ما ذكر من حصول الولد من هرمين مثلنا، وقيل‏:‏ هو إشارة إلى الولادة أو البشارة بها، والتذكير لأن المصدر في تأويل ‏{‏ءانٍ‏}‏ مع الفعل ولعل المآل أن هذا الفعل ‏{‏لَشَىْء عَجِيبٌ‏}‏ أي من سنة الله تعالى المسلوكة في عباده، والجملة تعليل بطريق الاستئناف التحقيقي ومقصدها كما قيل‏:‏ استعظام نعمة الله تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعاد ذلك من حيث القدرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ أي قدرته وحكمته‏.‏ أو تكوينه وشأنه سبحانه أنكروا عليها تعجبها لأنها كانت ناشئة في بيت النبوة ومهبط الوحي ومحل الخوارق فكان حقها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء من أمثال هذه الخوارق من ألطاف الله سبحانه الخفية ولطائف صنعه الفائضة على كل أحد ممن يتعلق بإفاضته عليه مشيئته تعالى الأزلية لا سيما أهل بيت النبوة الذين هم عم وأن تسبح الله تعالى وتمجده وتحمده، وإلى ذلك أشاروا بقوله عالى‏:‏ ‏{‏رَحْمَتَ الله‏}‏ المستتبعة كل خير ووضع المظهر موضع المضمر لزيادة تشريفها والإيماء إلى عظمتها ‏{‏وبركاته‏}‏ أي خيراته التامة المتكاثرة التي من جملتها هبة الأولاد، وقيل‏:‏ الرحمة النبوة‏.‏ والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء عليهم السلام منهم وكلهم من ولد إبراهيم عليه السلام؛ وقيل‏:‏ رحمته تحيته‏.‏ وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة‏.‏

‏{‏عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت‏}‏ نصب على المدح‏.‏ أو الاختصاص كما ذهب إليه كثير من المعربين، قال أبو حيان‏:‏ وبينهما فرق ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم والمنصوب على الاختصاص يقصد به المدح‏.‏ أو الذم لكن لفظه لا يتضمن بوضعه ذلك كقول رؤبة‏:‏ بنا تميما يكشف الضباب *** انتهى، وفي الهمع أن النصب في الاختصاص بفعل واجب الاضمار وقدره سيبويه بأعنى ويختص بأن الواقعة بعد ضمير المتكلم كأنا أفعل كذا أيها الرجل‏.‏ وكاللهم اغفر لنا أيتها العصابة، وحكمها في هذا الباب إلا عند السيرافي‏.‏ والأخفش حكمها في باب النداء ويقوم مقامها في الأكثر كما قال سيبويه بنو نحو قوله‏:‏

نحن بني ضبة أصحاب الجمل *** ومنه قوله‏:‏ نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق

ومعشر كقوله‏:‏ لنا معشر الأنصار مجد مؤثل *** بإرضائنا خير البرية أحمدا

وفي الحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وآل‏.‏ وأهل، وأبو عمرو لا ينصب غيرهما وليس بشيء، وقلّ كون ذلك علماً كما في بيت رؤبة السابق في كلام أبي حيان، ولا يكون اسم إشارة‏.‏ ولا غيره‏.‏ ولا نكرة البتة‏.‏ ولا يجوز تقديم اسم الاختصاص على الضمير، وقلّ وقوع الاختصاص بعد ضمير المخاطب كسبحانك الله العظيم، وبعد لفظ غائب في تأويل المتكلم أو المخاطب نحو على المضارب الوضيعة أيها البائع، فالمضرب لفظ غيبة لأنه ظاهر لكنه في معنى على أو عليك، ومنع ذلك الصفار البتة لأن الاختصاص شبه النداء فكما لا ينادي الغائب فكذلك لا يكون فيه الاختصاص انتهى مع أدنى زيادة وتغيير، ومنه يعلم بعض ما في كلام أبي حيان وأن حمل ما في الآية الكريمة على الاختصاص انتهى مع أدنى زيادة وتغيير، ومنه يعلم بعض ما في كلام أبي حيان وأن حمل ما في الآية الكريمة على الاختصاص من ارتكاب ما قل في كلامهم، وجوز في الكشاف نصبه على النداء، وقدمه على احتمال النصب على الاختصاص، ولعله أشار بذلك إلى ترجيحه على الاحتمال الثاني لكن ذكر بعض الأفاضل إن في ذلك فوات معنى المدح المناسب للمقام، والمراد من البيت كما في البحر بيت السكنى، وأصله مأوى الإنسان بالليل، ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه، ويقع على المتخذ من حجر‏.‏

ومن مدر‏.‏ ومن صوف‏.‏ ووبر، وعبر عن مكان الشيء بأنه بيته ويجمع على بيوت وأبيات، وجمع الجمع أباييت‏.‏ وبيوتات‏.‏ وأبياوات، ويصغر على بييت‏.‏ وبييت بالكسر، ويقال‏:‏ بويت كما تقوله العامة، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع ليكون جوابهم عليهم السلام لها جواباً لمن يخطر بباله مثل ما خطر ببالها من سائر أهل البيت‏.‏

والجملة كلام مستأنف علل به إنكار تعجبها فهي جملة خبرية، واختاره جمع من المحققين، وقيل‏:‏ هي دعائية وليس بذاك، واستدل بالآية على دخول الزوجة في أهل البيت، وهو الذي ذهب إليه السنيون، ويؤيده ما في سورة الأحزاب، وخالف في ذلك الشيعة فقالوا‏:‏ لا تدخل إلا إذا كانت قريب الزوج، ومن نسبه فإن المراد من البيت بيت النسب لا بيت الطين والخشب، ودخول سارة رضي الله تعالى عنها هنا لأنها بنت عمه، وكأنهم حملوا البيت على الشرف كما هو أحد معانيه، وبه فسر في قول العباس رضي الله تعالى عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ حتى احتوى ‏(‏بيتك‏)‏‏}‏ المهيمن من *** خندف علياء تحتها النطف

ثم خصوا الشرف بالشرف النسبي وإلا فالبيت بمعنى النسب مما لم يشع عند اللغويين، ولعل الذي دعاهم لذلك بغضهم لعائشة رضي الله تعالى عنها فراموا إخراجها من حكم ‏{‏يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام، واستدل بالآية على كراهة الزيادة في التحية على السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏.‏

أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً قال له‏:‏ سلام عليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته فانتهره ابن عمر وقال‏:‏ حسبك ما قال الله تعالى، وأخرج عن ابن عباس أن سائلاً قام على الباب وهو عند ميمونة فقال‏:‏ السلام عليكم أهل البيت ما قال الله تعالى، وأخرج عن ابن عباس أن سائلاً قام على الباب وهو عند ميمونة فقال‏:‏ السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته وصلواته ومغفرته، فقال‏:‏ انتهوا بالتحية إلى ما قال الله سبحانه، وفي رواية عن عطاء قال‏:‏ كنت جالساً عند ابن عباس فجاء سائل فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفته ورضوانه فقال‏:‏ ما هذا السلام‏؟‏ا وغضب حتى احمرت وجنتاه إن الله تعالى حد للسلام حداً ثم انتهى ونهى عما وراء ذلك ثم قرأ ‏{‏قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ حَمِيدٌ‏}‏ قال أبو الهيثم‏:‏ أي تحمد أفعاله، وفي الكشاف أي فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده ففعيل بمعنى مفعول، وجوز الراغب أن يكون ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ هنا بمعنى حامد ولعل الأول أولى ‏{‏مَّجِيدٌ‏}‏ أي كثير الخير والإحسان، وقال ابن الأعرابي‏:‏ هو الرفيع يقال‏:‏ مجد كنصر وكرم مجداً ومجادة أي كرم وشرف؛ وأصله من مجدت الابل إذا وقعت في مرعى كثير واسعد، وقد أمجدها الراعي إذا أوقعها في ذلك، وقال الأصمعي‏:‏ يقال‏:‏ أمجدت الدابة إذا أكثرت علفها، وقال الليث‏:‏ أمجد فلان عطاءه ومجده إذا كثره، ومن ذلك قول أبي حية النميري

‏:‏ تزيد على صواحبها وليست *** ‏(‏بما جدة‏)‏‏}‏ الطعام ولا الشراب

أي ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب، ومن أمثالهم في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفا رأي استكثر من ذلك، وقال الراغب‏:‏ أي تحري السعة في بذل الفضل المختص به، وقال ابن عطية‏:‏ مجد الشيء إذا حسنت أوصافه، والجملة على ما في الكشف تذييل حسن لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن وتمجده إذ شرفها بما شرف، وقيل‏:‏ هي تعليل لما سبق من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع‏}‏ أي الخوف والفزع، قال الشاعر‏:‏ إذا أخذتها هزة ‏(‏الروع‏)‏‏}‏ أمسكت *** بمنكب مقدام على الهول أروعا

والفعل راع، ويتعدى بنفسه كما في قوله‏:‏ ‏(‏ما راعني‏)‏‏}‏ إلا حمولة أهلها *** وسط الديار تسف حب الخمخم

والروع بضم الراء النفس وهي محل الروع، والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه السلام ببعض غب انفصالها بما ليس بأجنبي من كل وجه بل له مدخل في السياق والسباق، وتأخر الفاعل عن الظرف لكونه مصب الفائدة، والمعنى لما زال عنه ما كان أوجسه منهم من الخيفة وأطمأنت نفسه بالوقوف على جلية أمرهم ‏{‏وَجَاءتْهُ البشرى يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ أي يجادل رسلنا في حالهم وشأنهم، ففيه مجاز في الإسناد، وكانت مجادلته عليه السلام لهم ما قصه الله سبحانه في قوله سبحانه في سورة العنكبوت‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هذه القرية إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظالمين قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 31، 32‏]‏ فقوله عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِيهَا لُوطاً‏}‏ مجادلة وعد ذلك مجادلة لأن مآله على ما قيل‏:‏ كيف تهلك قرية فيها من هو مؤمن غير مستحق للعذاب‏؟‏ ولذا أجابوه بقولهم‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 32‏]‏ وهذا القدر من القول هو المتيقن‏.‏

وعن حذيفة أنهم لما قالوا لع عليه السلام ما قالوا، قال‏:‏ أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فثلاثون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فعشرون، قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فإن كان فيهم عشرة‏.‏ أو خمسة شك الرواي‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ أرأيتم إن كان فيها رجل واحد من المسلمين أتهلكونها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، فعند ذلك قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِيهَا لُوطاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 32‏]‏ فأجابوه بما أجابوه، وروي نحو ذلك عدة روايات الله تعالى أعلم بصحتها، وفسر بعضهم المجادلة بطلب الشفاعة، وقيل‏:‏ هي سؤاله عن العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة‏؟‏ وأياً مّا كان فيجادلنا جواب لما وكان الظاهر جادلنا إلا أنه عبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية واستحضار صورتها، وقيل‏:‏ إن لما كلو تقلب المضارع ماضياً كما أن أن تقلب الماضي مستقبلاً، وقيل‏:‏ الجواب محذوف، وهذه الجملة في موضع الحال من فاعله أي أخذ أو أقبل مجادلالنا، وآثر هذا الوجه الزجاج ولكنه جعله مع حكاية الحال وجهاً واحداً لأنه قال‏:‏ ولم يذكر في الكلام أخذ لأن الكلام إذا أريد به حكاية حال ماضية قدر فيه أخذ وأقبل لأنك إذا قلت‏:‏ قام زيد دل على فعل ماض، وإذا قلت‏:‏ أخذ زيد يقوم دل على حال ممتدة من أجلها ذكر أخذ وأقبل، وصنيع الزمخشري يدل على أنهما وجهان، وتحقيقه على ما في الكشف أنه إذا أريد استمرار الماضي فهو كما ذكره الزجاج، وإن أريد التصوير المجرد فلا، وقيل‏:‏ الجواب محذوف‏.‏

والجملة مستأنفة استئنافاً نحوياً أو بيانياً وهي دليل عليه، والتقدير اجترأ على خطابنا أو فطن بمجادلتنا وقال‏:‏ كيت وكيت، واختاره في الكشاف، وقيل‏:‏ إن هذه الجملة وكذا الجملة التي قبلها في موضع الحال من ‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ على الترادف أو التداخل وجواب لما قلنا يقدر قبل ‏{‏يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 76‏]‏، وأقرب الأقوال أولها، والبشرى إن فسرت بقولهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 0‏]‏ فسببية ذهاب الخوف ومجيء السرور للمجادلة ظاهرة، وأما إن فسرت ببشارة الولد كما أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عن قتادة واختاره جمع أو بما يعمها فلعل سببيتها لها من حيث أنها تفيد زيادة اطمئنان قبله عليه السلام بسلامته وسلامة أهله كافة كذا قاله مولانا شيخ الإسلام، ثم قال‏:‏ إن قيل‏:‏ إن المتبادر من هذا الكلام أن يكون إبراهيم عليه السلام قد علم أنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط قبل ذهاب الروع عن نفسه ولكن لم يقدر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسه، فلما ذهب عنه الروع فرغ لها مع أن ذهاب الروع إنما هو قبل العلم بذلك لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70‏]‏ قلنا‏:‏ كان لوط عليه السلام على شريعة إبراهيم عليه السلام وقومه مكلفين بها فلما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط، ولا ريب في تقدم هذا الخوف على قولهم‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70‏]‏ وأما الذي علمه عليه السلام بعد النهي فهو اختصاص قوم لوط بالهلاك لا دخول لهم تحت العموم فتأمل انتهى‏.‏

وفيه أن كون الكل أمته في حيز المنع، وما أشار إليه من اتحاد الشريعتين إن أراد به الاتحاد في الأصول كاتحاد شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم مع شريعة إبراهيم عليه السلام فمسلم لكن لا يلزم منه ذلك، وإن أراد به الاتحاد في الأصول والفروع فغير مسلم ولو سلم ففي لزوم كون الكل أمته له تردد على أنه لو سلمنا كل ذلك فلقائل أن يقول‏:‏ سلمنا أنه عليه السلام لما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى حصل له خوف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط عليه السلام لكن لا نسلم أن هذا الخوف كان عن علم بأن أولئك الملائكة كانوا مرسلين لاهلاك الكل المندرج فيه قوم لوط بل عن تردد وتحير في أمرهم، وحينئذ لا ينحل السؤال بهذا الجواب كما لا يخفى على المتبصر، وكأنه لذلك أمر بالتأمل؛ وقد يقال‏:‏ المفهوم من الكلام تحقق المجادلة بعد تحقق مجموع الأمرين ذهاب الروع ومجيء البشارة، وهو لا يستدعي إلا سبق العلم بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط على تحقق المجموع، ويكفي في ذلك سبقه على تحقق البشارة، وهذا العلم مستفاد من قولهم له‏:‏

‏{‏لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70‏]‏ وكأنه عليه السلام إنما لم يجادل بعد هذا العلم، وأخر المجادلة إلى مجيء البشارة ليرى ما ينتهى إليه كلام الملائكة عليهم السلام، أو لأنه لم يقع فاصل سكوت في البين ليجادل فيه إلا أن هذا لا يتم إلا أن يكون الإخبار بالإرسال إلى قوم لوط سابقاً على البشارة بالولد، وفيه تردد‏.‏

وفي بعض الآيات ما هو ظاهر في سبق البشارة على الإخبار بذلك، نعم يمكن أن يلتزم سبق الأخبار على البشارة، ويقال‏:‏ إنهم أخبروه أولا ثم بشروه ثانياً، ثم بعد أن تحقق مجموع الأمرين قال‏:‏ ‏{‏فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 57‏]‏ ويقال‏:‏ الرماد منه السؤال عن حال العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم هو على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الإيمان‏؟‏ وتفسير المجادلة به كما مر عن بعض فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ‏}‏ غير عجول على الانتقام إلى المسيء إليه ‏{‏أواه‏}‏ كثير التأوة من الذنوب والتأسف على الناس ‏{‏أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ‏}‏ راجع إلى الله تعالى، والمقصود من وصفه عليه السلام بهذه الصفات المنبئة عن الشفقة ورقة القلب بيان ما حمله على ما صدر عنه من المجادلة، وحمل الحلم على عدم العجلة والتأني في الشيء مطلقاً، وجعل المقصود من الوصف بتلك الصفات بيان ما حمله على المجادلة وإيقاعها بعد أن تحقق ذهاب الروع ومجيء البشرى لا يخفي حاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ على تقدير القول ليرتبط بما قبل أي قالت الملائكة، أو قلنا ‏{‏ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَعْرِضْ عَنْ هذا‏}‏ الجدال ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي الشأن ‏{‏قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ أي قدره تعالى المقضى بعذابهم، وقد يفسر بالعذاب، ويراد بالمجيء المشارفة فلا يتكرر مع قوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ‏}‏ أي لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما إذ حاصل ذلك حينئذ شارفهم ثم وقع بهم، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى اعتبار المشارفة، والتكرار مدفوع بأن ذاك توطئة لذكر كونه غير مردود‏.‏

وقرأ عمرو بن هرم وإنهم أتاهم بلفظ الماضي، و‏{‏عَذَابِ‏}‏ فاعل به، وعبر بالماضي لتحقيق الوقوع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً‏}‏ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ انطلقوا من عند إبراهيم عليه السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صورة غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك ‏{‏سِىء بِهِمْ‏}‏ أي أحدث له عليه السلام مجيئهم المساءة لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم، وقيل‏:‏ كان بين القريتين ثمانية أميال فأتوها عشاءاً، وقيل نصف النهار ووجدوا لوطاً في حرث له‏.‏

وقيل‏:‏ وجدوا بنتاً له تستقي ماءاً من نهر سدوم وهي أكبر محل للقوم فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيأتهم فخافت عليهم من قوم أبيها فقالت لهم‏:‏ مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا‏:‏ إنا نريد أن تضيفنا الليلة، فقال‏:‏ أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم‏؟‏ فقالوا‏:‏ وما عملهم‏؟‏ فقال‏:‏ أشهد بالله تعالى أنهم شر قوم في الأرض، وقد كان الله تعالى قال للملائكة لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال هذه قال جبريل عليه السلام‏:‏ هذه واحدة وتكرر القول منهم حتى كرر لوط الشهادة فتمت الأربع ثم دخل المدينة فدخلوا معه منزله ‏{‏وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا‏}‏ أي طاقة وجهداً، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير بيديه يذرع في مسيره إذا سار ماداً خطوه مأخوذ من الذراع وهي العضو المعروف، ثم توسع فيه فوضع موضع الطاقة والجهد، وذلك أن اليد كما تجعل مجازاً عن القوة فالذراع المعروفة كذلك، وفي «الصحاح» يقال‏:‏ ضقت بالأمر ذرعاً إذا لم تطقه ولم تقو عليه، وأصل الذرع بسط اليد فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله، وربما قالوا‏:‏ ضقت به ذراعاً، قال حميد بن ثور يصف ذئباً‏:‏ وإن بات وحشاً ليلة لم يضق بها *** ‏(‏ذراعاً‏)‏ ولم يصبح لها وهو خاشع

وفي «الكشاف» جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا‏:‏ رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقاً له، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلاً في العجز والقدرة، ونصبه على أنه تمييز محول عن الفاعل أي ضاق بأمرهم وحالهم ذرعه، وجوز أن يكون الذرع كناية عن الصدر والقلب، وضيقه كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه، وهو على ما قيل‏:‏ كناية متفرعة على كناية أخرى مشهورة؛ وقيل‏:‏ إنه مجاز لأن الحقيقة غير مرادة هنا؛ وأبعد بعضهم في تخريج هذا الكلام فخرجه على أن المراد أن بدنه ضاق قدر عن احتمال ما وقع ‏{‏وَقَالَ هذا‏}‏ اليوم ‏{‏يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏ أي شديد، وأصله من العصب بمعنى الشد كأنه لشدة شره عصب بعضه ببعض، وقال أبو عبيدة‏:‏ سمي بذلك لأنه يعصب الناس بالشر، قال الراجز‏:‏ يوم عصيب يعصب الأبطالا *** عصب القوى السلم الطوالا

وفي معناه العصبصب والعصوصب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاءهُ‏}‏ أي لوطاً وهو في بيته مع أضيافه ‏{‏قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أي يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضاً، أو يحثهم كبيرهم ويسوقهم، أو الطمع في الفاحشة، والعامة على قراءته مبنياً للمفعول، وقرأ جماعة ‏{‏يُهْرَعُونَ‏}‏ بفتح الياء مبنياً للفاعل من هرع، وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضاً، وجاء أهرع القوم إذا أسرعوا، وفسر بعضهم الإهراع بالمشي بين الهرولة والجمز، وعن ابن عباس أنه سئل عما في الآية، فقال‏:‏ المعنى يقبلون إليه بالغضب، ثم أنشد قول مهلهل‏:‏ فجاءوا يهرعون وهم أسارى *** نقودهم على رغم الأنوف

وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بيسرعون وهو بيان للمراد ويستقيم على القرائتين، وجملة ‏{‏يُهْرَعُونَ‏}‏ في موضع الحال من قومه أي جاؤوا مهرعين إليه، روي أنه لما جاء لوط بضيفه لم يعلم ذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت‏:‏ إن لوطاً قد أضاف الليلة فئة ما رؤي مثلهم جمالاً فحينئذٍ جاؤوا يهرعون إليه ‏{‏وَمِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل وقت مجيئهم، وقيل‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ بعث لوط رسولاً إليهم ‏{‏كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات‏}‏ قيل‏:‏ المراد سيئة إتيان الذكور إلا أنها جمعت باعتبار تكررها أو باعتبار فاعليها‏.‏

وقيل‏:‏ المراد ما يعم ذلك، وإتيان النساء في محاشهن‏.‏ والمكاء‏.‏ والصفير‏.‏ واللعب بالحمام‏.‏ والقمار‏.‏ والاستهزاء بالناس‏.‏ وغير ذلك، والمراد من ذكر عملهم السيئات من قبل بيان أنهم اعتادوا المنكر فلم يستحيوا فلذلك أسرعوا لطلب الفاحشة من ضيوفه مظهرين غير مكترثين، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها‏.‏

وقيل‏:‏ إنها بيان لوجه ضيق صدره لما عرف من عادتهم، وجعلها شيخ الإسلام في موضع الحال كالتي قبلها أي جاؤوا مسرعين، والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات‏.‏

‏{‏قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية تزويج المؤمنات من الكفار فإنه كان جائزاً، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب لأبي العاص بن الربيع‏.‏ وابنته رقية لعتبة بن أبي لهب قبل الوحي وكانا كافرين إلا أن عتبة لم يدخل بها وفارقها بطلب أبيه حين نزلت ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏ فتزوّجها عثمان رضي الله تعالى عنه، وأبا العاص كان قد دخل بها لكن لما أسر يوم بدر وفادى نفسه أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العهد عليه أن يردها إذا عاد فأرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار في طلبها فجاءا بها ثم أنه أسلم وأتى المدينة فردها عليه الصلاة والسلام إليه بنكاح جديد أو بدونه على الخلاف‏.‏

وقال الحسن بن الفضل‏:‏ إنه عليه السلام عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وهو مبني على أن تزويج المسلمات من الكفار لم يكن جائزاً إذ ذاك، وقيل‏:‏ كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ولم يكن له عليه السلام سواهما، واسم إحداهما على ما في بعض الآثار زعوراء‏.‏ والأخرى زيتاء، وقيل‏:‏ كان له عليه السلام ثلاث بنات، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس، ويؤيده ظاهر الجمع وإن جاء إطلاقه على اثنين، وأياً ما كان فقد أراد عليه السلام بذلك وقاية ضيفه وهو غاية الكرم فلا يقال‏:‏ كيف يليق به عليه السلام أن يعرض بناته على أعدائه ليزوجهن إياهم‏؟‏ا نعم استشكل عرض بناته بناءاً على أنهن اثنتان كما هو المشهور، أو ثلاث كما قيل على أولئك المهرعين ليتزوجوهن مع القول بأنهم أكثر منهن إذ لا يسوغ القول بحل تزوج الجماعة بأقل منهم في زمان واحد، ومن هنا قال بعض أجلة المفسرين‏:‏ إن ذلك القول لم يكن منه عليه السلام مجرياً على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهاراً لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعاً في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم وهو الأنسب بجوابهم الآتي، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن جبير‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن أبي الدنيا‏.‏ وابن عساكر عن السدي أن المراد ببناته عليه السلام نساء أمته، والإشارة بهؤلاء لتنزيلهن منزلة الحاضر عنده وإضافتهن إليه لأن كل نبي أب لأمته، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم‏.‏

وقرأ أبي رضي الله تعالى عنه مثل ذلك لكنه قدم ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ علي وهو أب لهم وأراد عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ أنظف فعلاً، أو أقل فحشاً كقولك‏:‏ الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه، ويراد من الطهارة على الأول الطهارة الحسية وهي الطهارة عما في اللواطة من الأذى والخبث، وعلى الثاني الطهارة المعنوية وهو التنزه عن الفحش والإثم، وصيغة أفعل في ذلك مجاز، والظاهر إن هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وكذلك ‏{‏هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ وجوز أبو البقاء كون ‏{‏بَنَاتِى‏}‏ بدلاً أو عطف بيان ‏{‏وَهَنَ‏}‏ ضمير فصل، و‏{‏أَطْهَرُ‏}‏ هو الخبر، وكون ‏{‏هُنَّ‏}‏ مبتدأ ثانياً، و‏{‏أَطْهَرُ‏}‏ خبره، والجملة خبر ‏{‏هَؤُلاء‏}‏‏.‏

وقرأ الحسن وزيد بن علي‏.‏ وعيسى الثقفي‏.‏ وسعيد بن جبير‏.‏ والسدي ‏{‏أَطْهَرُ‏}‏ بالنصب، وقد خفي وجهه حتى قال عمرو بن العلاء‏:‏ إن من قرأ ‏{‏أَطْهَرُ‏}‏ بالنصب فقد تربع في لحنه وذلك لأن انتصابه على أن يجعل حالاً عمل فيها ما في ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ من الإشارة أو التنبيه أو ينصب ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ بفعل مضمر كؤنه قيل‏:‏ خذوا هؤلاء و‏{‏بَنَاتِى‏}‏ بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال و‏{‏هُنَّ‏}‏ في الصورتين فصل وهذا لا يجوز لأن الفصل إنما يكون بين المسند والمسند إليه، ولا يكون بين الحال وذيها كذا قيل، وهذا المنع هو المروى عن سيبويه وخالف في ذلك الأخفش فأجاز توسط الفصل بين الحال وصاحبها فيقول‏:‏ جاء زيد هو ضاحكاً، وجعل من ذلك هذه الآية على هذه القراءة، وقيل‏:‏ بوقوعه شذوذاً كما في قولهم‏:‏ أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة، ومن منع ذلك خرج هذا على إضمار كان، والآية الكريمة على أن ‏{‏هُنَّ‏}‏ مبتدأ و‏{‏لَكُمْ‏}‏ الخبر، و‏{‏أَطْهَرُ‏}‏ حال من الضمير في الخبر، واعترض بأن فيه تقديم الحال على عاملها الظرفي، والأكثرون على منعه أو على أن يكون ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ مبتدأ و‏{‏بَنَاتِى هُنَّ‏}‏ جملة في موضع خبر المبتدأ كقولك‏:‏ هذا أخي هو، ويكون ‏{‏أَطْهَرُ‏}‏ حالاً وروي هذا عن المبرد‏.‏

وابن جني، أو على أن يكون ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ مبدأ و‏{‏بَنَاتِى‏}‏ بدلاً منه أو عطف بيان و‏{‏هُنَّ‏}‏ خبر و‏{‏أَطْهَرُ‏}‏ على حاله‏.‏

وتعقب بأنه ليس فيه معنى طائل، ودفع بأن المقصود بالإفادة الحال كما في قولك‏:‏ هذا أبوك عطوفاً، وادعى في «الكشف» أن الأوجه أن يقدروا خذوا هؤلاء أطهر لكم، وقوله‏:‏ ‏{‏بَنَاتِى هُنَّ‏}‏ جملة معترضة تعليلاً للأمر وكونهن أولى قدمت للاهتمام كأنه قيل خذوا هؤلاء العفائف أطهر لكم إن بناتي هن وأنتم تعلمون طهارتي وطهارة بناتي؛ ويجوز أن يقال ‏{‏هُنَّ‏}‏ تأكيد للمستكن في ‏{‏بَنَاتِى‏}‏ لأنه وصف مشتق لا سيما على المذهب الكوفي فافهم ولا تغفل ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم ‏{‏وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى‏}‏ أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاء له، أو لا تخجلوني فيهم، والمصدر على الأول الخزي وعلى الثاني الخزاية، وأصل معنى خزي لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط، وإما من غيره وهو الاستخفاف والتفضيح، والضيف في الأصل مصدر، ولذا إذا وصف به المثنى أو المجموع لم يطابق على المشهور، وسمع فيه ضيوف، وأضياف، وضيفان، ‏{‏وَلاَ‏}‏ ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والموجودة نون الوقاية، والياء محذوفة اكتفاءاً بالكسرة، وقرىء بإثباتها على الأصل ‏{‏أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ‏}‏ يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال‏:‏ يأمر بمعروف أو ينهي عن منكر، وهو إما بمعنى ذو رشد أو بمعنى مرشد كالحكيم بمعنى المحكم، والاستفهام للتعجب، وحمله على الحقيقة لا يناسب المقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ معرضين عما نصحهم به من الأمر بالتقوى والنهي عن الإخزاء عن أول كلامه ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ‏}‏ أي حق وهو واحد الحقوق، وعنوا به قضاء الشهوة أي ما لنا حاجة في بناتك، وقد يفسر بما يخالف الباطل أي ما لنا في بناتك نكاح حق لأنك لا ترى جواز نكاحنا للمسلمات، وما هو إلا عرض سابري كذا قيل، وهو ظاهر في أنه كان من شريعته عليه السلام عدم حل نكاح الكافر المسلمة‏.‏

وقيل‏:‏ إنما نفوا أن يكون لهم حق في بناته لأنهم كانوا قد خطبوهن فردهم وكان من سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبداً، وقييل‏:‏ إنهم لما اتخذوا إتيان الذكور مذهباً كان عندهم هو الحق وأن نكاح الإناث من الباطل فقالوا ما قالوا، وقيل‏:‏ قالوا ذلك لأن عادتهم كانت أن لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة وكانوا كلهم متزوجين ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏ أي من إتيان الذكور، والظاهر أن ‏{‏مَا‏}‏ مفعول لتعلم، وهو بمعنى تعرف، وهي موصولة والعائد محذوف أي الذي نريده، وقيل‏:‏ إنها مصدرية فلا حذف أي إرادتنا‏.‏

وجوز أن تكون استفهامية وقعت مفعولاً لنريد وهي حينئذٍ معلقة لتعلم ولما يئس عليه السلام من إرعوائهم عما هم عليه من الغي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً‏}‏ أي لو ثبت أن لي قوة ملتبسة بكم بالمقاومة على دفعكم بنفسي لفعلت فلو شرطية وجوابها محذوف كما حذف في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ وجوز أن تكون للتمني، و‏{‏بِكُمْ‏}‏ حال من ‏{‏قُوَّةَ‏}‏ كما هو المعروف في صفة النكرة إذا قدمت عليها، وضعف تعلقه بها لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور، وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ ءاوى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏}‏ عطف على ما قبله بناءاً على ما علمت من معناه الذي يقتضيه مذهب المبرد، والمضارع واقع موقع الماضي، واستظهر ذلك أبو حيان، وقال الحوفي‏:‏ إنه عطف على ما تقدم باعتبار أن المراد أو أنى آوى، وجوز ذلك أبو البقاء، وكذا جوز أن تكون الجملة مستأنفة، والركن في الأصل الناحية من البيت أو الجبل، ويقال‏:‏ ركن بضم الكاف، وقد قرىء به ويجمع على أركان، وأراد عليه السلام به القوى شبهه بركن الجبل في شدته ومنعته أي أو أنضم إلى قوى أتمنع به عنكم وأنتصر به عليكم، وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول منه عليه السلام بادرة واستغربه، فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ رحم الله تعالى أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد ‏"‏ يعني عليه الصلاة والسلام به الله تعالى فإنه لا ركن أشد منه عز وجل‏:‏ إذا كان غير الله للمرء عدة *** أتته الرزايا من وجوه الفوائد

وجاء أنه سبحانه لهذه الكلمة لم يبعث بعد لوط نبياً إلا في منعة من عشيرته، وفي «البحر» أنه يجوز على رأي الكوفيين أن تكون ‏{‏أَوْ‏}‏ بمعنى بل ويكون عليه السلام قد أضرب عن الجملة السابقة، وقال‏:‏ بل آوى في حالي معكم إلى ركن شديد وكني به عن جناب الله تعالى ولا يخفى أنه يأبى الحمل على هذه الكناية تصريح الأخبار الصحيحة بما يخالفها، وقرأ شيبة‏.‏ وأبو جعفر ‏{‏أَوَى‏}‏ بالنصب على إضمار أن بعد ‏{‏أَوْ‏}‏ فيقدر بالمصدر عطفاً على ‏{‏قُوَّةَ‏}‏ ونظير ذلك قوله‏:‏ ولولا رجال من رزام أعزة *** وآل سبيع أو أسوأك علقماً

أي لو أن لي بكم قوة أو أوياً، روي أنه عليه السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة عليهم السلام ما على لوط من الكرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ‏}‏ بضرر ولا مكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام رب العزة في عقوبتهم فأذن له فلما دنوا طمس أعينهم فانطلقوا عمياً يركب بعضهم بعضاً وهم يقولون‏:‏ النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوماً سحرة، وفي رواية أنه عليه السلام أغلق الباب على ضيفه فجاؤوا فكسروا الباب فطمس جبريل أعينهم فقالوا‏:‏ يا لوط جئتنا بسحرة وتوعدوه فأوجس في نفسه خيفة قال‏:‏ يذهب هؤلاء ويذروني فعندها قال جبريل عليه السلام‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ‏}‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ بالقطع من الإسراء، وقرأ ابن كثير‏.‏ ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السرى، وقد جاء سرى‏.‏ وهما بمعنى واحد عند أبي عبيدة‏.‏ والأزهري، وعن الليث أسرى سار أول الليل وسرى سار آخره، ولا يقال في النهار‏:‏ إلا سار وليس هو مقلوب سرى، والفاء لترتيب الأمر بالإسراء على الإخبار برسالتهم المؤذنة بورود الأمر والنهي من جنابه عز وجل إليه عليه السلام، والباء للتعدية أو للملابسة أي سر ملابساً بأهلك ‏{‏بِقِطْعٍ مّنَ اليل‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بطائفة منه، وقال قتادة‏:‏ بعد مضي صدر منه، وقيل‏:‏ نصفه، وفي رواية أخرى عن الحبر آخره وأنشد قول مالك بن كنانة‏:‏ ونائحة تقوم بقطع ليل *** على رحل أهانته شعوب

وليس من باب الاستدلال، وإلى هذا ذهب محمد بن زياد لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نجيناهم بِسَحَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 34‏]‏ وتعقبه ابن عطية بأنه يحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوزوا البلد المقتلع، ووقعت نجاتهم بسحر، وأصل القطع القطعة من الشيء لكن قال ابن الأنباري‏:‏ إن ذلك يختص بالليل فلا يقال‏:‏ عندي قطع من الثوب‏.‏

وفسر بعضهم القطع من الليل بطائفة من ظلمته، وعن الحبر أيضاً تفسيره بنفس السواد، ولعله من باب المساهة ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ‏}‏ أي لا يتخلف كما روي عن ابن عباس، أو لا ينظر إلى ورائه كما روي عن قتادة، قيل‏:‏ وهذا هو المعنى المشهور الحقيق للالتفات، وأما الأول فلأنه يقال‏:‏ لفته عن الأمر إذا صرفته عنه فالتفت أي انصرف، والتخلف انصراف عن المسير، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 78‏]‏ أي تصرفنا كذا قال الراغب‏.‏

وفي الأساس أنه معنى مجازي، والنهي في اللفظ لأحد، وفي المعنى للوط عليه السلام على ما نقل عن المبرد، وهذا كما تقول لخادمك‏:‏ لا يقم أحد في أن النهي في الظاهر لأحد، وهو في الحقيقة للخادم أن لا يدع أحداً يقوم، فالمعنى هنا فأسر بأهلك ولا تدع أحداً منهم يلتفت؛ ولا يخفى أنه على هذا تتم المناسبة بين المعطوف عليه والمعطوف لأن الأول لأمره عليه السلام‏.‏

والثاني لنهيه، ويعلم من هذا أن ضمير ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ للأهل‏.‏

وقد صرح بذلك شهاب فلك الفضل الخفاجي، فقال‏:‏ وههنا لطيفة وهو أن المتأخرين من أهل البديع اخترعوا نوعاً من البديع سموه تسمية النوع، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام‏:‏ واستخدموا العين مني فهي جارية *** وكم سمحت بها في يوم بينهم

وتبجحوا باختراعه، وأنا بمنّ الله تعالى أقول‏:‏ إنه وقع في القرآن في هذه الآية لأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ الخ وقع فيه ضمير ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ للأهل فقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏لا يَلْتَفِتْ‏}‏ من تسمية النوع وهذا من بديع النكات انتهى، وسر النهي عن الالتفات بمعنى التخلف ظاهر، وأما سره إذا كان بمعنى النظر إلى وراء فهو أن يجدوا في السير فإن من يلتفت إلى ورائه لا يخلو عن أدنى وقفة أو أن لا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم‏.‏

وذكر بعضهم أن النهي وكذا الضمير للوط عليه السلام ولأهله أي لا يلتفت أحد منك ومن أهلك‏.‏ ‏{‏إِلاَّ امرأتك‏}‏ بالنصب وهو قراءة أكثر السبعة‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو بالرفع؛ وقد كثر الكلام في ذلك فقال الزمخشري‏:‏ إنه سبحانه استثناها من قوله‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ ويدل عليه قراءة عبد الله ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ بقطع من الليل إلا امرأتك ويجوز أن ينتصب من لا يلتفت على أصل الاستثناء، وإن كان الصيح هو البدل أعني قراءة من قرأ بالرفع فأبدلها من أحد، وفي إخراجها مع أهله روايتان‏:‏ روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت‏:‏ يا قوماه فأدركها حجر فقتلها‏.‏

وروي أنه لما أمر أن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم فلم يسر بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى، وأورد عليه ابن الحاجب ما خلاصته أنه إما أن يسري بها فالاستثناء من أحد متعين‏.‏ أولاً فيتعين من ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ والقصة واحدة فأحد التأويلين باطل قطعاً، والقراءاتان الثابتتان قطعاً لا يجوز حملهما على ما يوجب بطلان أحدهما، فالأولى أن يكون ‏{‏إِلاَّ امرأتك‏}‏ رفعاً ونصباً مثل ‏{‏مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏ ولا يبعد أن يكون بعض القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على ما دونه بل جوز بعضهم أن تتفق القراء على القراءة بغير الأقوى‏.‏

وأجاب عنه بعض المغاربة بما أشار إليه في «الكشف» من منع التنافي لأن الاستثناء من الأهل يقتضي أن لا يكون لوط عليه السلام مأموراً بالإسراء بها، ولا يمنع أنها سرت بنفسها، ويكفي لصحة الاستثنائين هذا المقدار كيف ولم ينه عن إخراجها ولكنه أمر بإخراج غيرها، نعم يرد على قوله‏:‏ واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين أنه يلزم الشك في كلام لا ريب فيه من رب العالمين، ويجاب بأن معناه اختلاف القراءتين جالب وسبب لاختلاف الروايتين كما تقول‏:‏ السلاح للغزو أي أداة وصالح مثلاً له، ولم يرد أن اختلاف القراءتين لأجل اختلاف الروايتين قد حصل، ولا شك أن كل رواية تناسب قراءة وإن أمكن الجمع، وأما قوله‏:‏ وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فنقل للرواية لا تفسير للفظ القرآن، وإنما الكائن فيه استثناؤها عن الحكم الذي للاستصلاح إذ لم يعن بها، وإلى معنى ما أشار إليه صاحب الكشف في منع التنافي أشار أبو شامة فقال‏:‏ وقع في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين فكأنه قيل‏:‏ فأسر بأهلك إلا امرأتك كما قرأ به عبد الله‏.‏

ورواه أبو عبيدة عن مصحفه، فهذا دليل على أن استثناءها من السري بهم، ثم كأنه قال سبحانه‏:‏ فإن خرجت معكم وتبعتكم من غير أن تكون أنت سريت بها فإنه أهلك عن الالتفات غيرها فإنها ستهلك ويصيبها ما يصيب قومها، فكانت قراءة النصب دالة على المعنى المتقدم، وقراءة الرفع دالة على هذا المعنى المتأخر ومجموعهما دال على جملة المعنى المشروح، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف كما قال ابن مالك، ولذا اختار أن الرفع على أن الاستثناء منقطع، و‏{‏امرأتك‏}‏ مبتدأ، والجملة بعدها خبره وإلا بمعنى لكن‏.‏

وقال ابن هشام في «المغني» في الجهة الثامنة من الباب الخامس‏:‏ إن ما ذكره الزمخشري وقد سبقه إليه غيره في الآية خلاف الظاهر، والذي حمل القائلين عليه أن النصب قراءة الأكثرين فإذا قدر الاستثناء من أحد كانت قراءتهم على الوجه المرجوح، وقد التزم بعضهم جواز مجىء الأمرين مستدلاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 49‏]‏ فإن النصب في ذلك عند سيبويه على حد قولهم‏:‏ زيداً ضربته، ولم ير خوف إلباس المفسر بالصفة مرجحاً كما رآه بعض المتأخرين، ثم قال‏:‏ والذي أجزم به أن قراءة الأكثرين لا تكون مرجحة، وأن الاستثناء على القراءتين من جملة الأمر بدليل سقوط ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ‏}‏ الخ في قراءة ابن مسعود، والاستثناء منقطع بدليل سقوطه في آية الحجر، ولأن المراد بالأهل المؤمنون وإن لم يكونوا من أهل بيته لا أهل بيته وإن لم يكونوا مؤمنين كما في قوله تعالى لنوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 46‏]‏ ووجه الرفع أنه على الابتداء، وما بعده الخبر والمستثنى الجملة، ونظيره ‏{‏لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ فَيْعَذّبُهُ الله‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 22-24‏]‏‏.‏

واختار أبو شامة ما اخترته من أن الاستثنا منقطع لكنه قال‏:‏ وجاء النصب على اللغة الحجازية والرفع على التميمية، وهذا يدل على أنه جعل الاستثناء من جملة النهي، وما قدمته أولى لضعف اللغة التميمية، ولما قدمت من سقوط جملة النهي في قراءة عبد الله انتهى‏.‏

واستظهر ذلك الحمصي في حواشيه على التصريح واستحسنه غير واحد، وقد نقل أبو حيان القول بالانقطاع على القراءتين وتخريج النصب على اللغة الحجازية والرفع عن الأخرى، ثم قال إنه كلام لا تحقيق فيه فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات وكان المعنى لكن امرأتك يجري عليها كذا وكذا كان من الاستثناء الذي لا يتوجه إليه العامل، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع العرب، وإنما الخلاف في المنقطع الذي يمكن توجه العامل إليه وفيه نظر، ففي التوضيح لابن مالك حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب مفرداً كان أو مكملاً معنى بما بعده كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 59-60‏]‏ النصب، ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين إلا النصب، وقد غفلوا عن وروده مرفوعاً بالابتداء ثابت الخبر كقول أبي قتادة‏:‏ أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، ومحذوفه نحو ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏ إلا الله، ‏{‏وَإِلاَّ‏}‏ في ذلك بمعنى لكن أي لكن أبو قتادة لم يحرم ولكن الله يعلم انتهى، وما نحن فيه من قبيل هذا، وفي حاشيتي البدر الدماميني‏.‏ وتقي الدين الشمني أن الرضى قد أجاب بما يقتضي أن الاستثناء متصل ولا تناقض، وذلك أنه قال‏:‏ ولما تقرر أن الأتباع هو الوجه مع الشرائط المذكورة وكان أكثر القراء على النصب في ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ‏}‏ الخ تكلف الزمخشري لئلا تكون قراءة الأكثر محمولة على وجه غير مختار بما تكلف، واعترضه ابن الحاجب بلزوم التناقض لأن الاستثناء من أسر بأهلك يقتضي كونها غير مسرى بها، ومن لا يلتفت منكم أحد يقتضي كونها مسري بها لأن الالتفات بالإسراء، والجواب أن الإسراء وإن كان مطلقاً في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات‏.‏ فمآله أسر بأهلك إسراءاً لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراءاً مع الالتفات فاستثن على هذا إن شئت من أسر أو لا يلتفت ولا تناقض وهذا كما تقول‏:‏ امش ولا تتبختر أي امش مشياً لا تتبختر فيه فكأنه قيل‏:‏ ولا يلتفت منكم أحد في الإسراء، وكذا امش ولا تتبختر في المشي فحذف الجار والمجرور للعلم به انتهى‏.‏

وأورد عليه السيد السند في حواشيه أن الاستثناء إذا رجع إلى القيد كان المعنى فأسر بجميع أهلك إسراءاً لا التفات فيه إلا من امرأتك فيكون الإسراء بها داخلاً في المأمور به وإذا رجع إلى المقيد لم يكن الإسراء بها داخلاً في المأمور به فيكون المحذور باقياً بحاله ولا مخلص عنه إلا بأن يقال‏:‏ إن تناول العام إياها ليس قطعياً لجواز أن يكون مخصوصاً فلا يلزم من رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ‏}‏ كونه عليه السلام مأموراً بالإسراء بها، وحينئذٍ يوجه الاستثناء بما ذكر من أنها تبعتهم أو أسرى بها مع كونه غير مأمور بذلك إذ لا يلزم من عدم الأمر به النهي عنه فتأمل انتهى‏.‏

وبحث فيه الشهاب ولم يرتض احتمال التخصيص لما أنه لا دليل عليه ويفهم صنيعه ارتضاء كلام الرضى، ثم قال‏:‏ ومراده بالتقييد أنه ذكر شيآن متعاطفان، فالظاهر أن المراد الجمع بينهما لا أن الجملة حالية فلا يرد عليه أن الحمل على التقييد مع كون الواو للنسق ممنوع، وكذا جعلها للحال مع لا الناهية، وأيضاً القراءة بإسقاطها تدل على عدم اعتبار ذلك التقييد ولا يخلو عن شيء، هذا وقد ألفت في تحقيق هذا الاستثناء عدة رسائل‏:‏ منها رسالة للحمصي‏.‏ وأخرى للعلامة الكافيجي ألفها لبعض سلاطين آل عثمان غمرهم الله سبحانه بصنوف الفضل والإحسان حين طلب منه لبحث وقع في مجلسه ذلك، وبالجملة القول بالانقطاع أقل تكلفاً فيما يظهر، والقول بأنه حينئذٍ لا يبقى ارتباط لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ‏}‏ ناشىء من عدم الالتفات فلا ينبغي أن يلتفت إليه كما لا يخفى على من أحاط خبراً بما تقدم نقله فتأمل، وضمير ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ للشأن، و‏{‏مَا أصابهم‏}‏ مبتدأ، و‏{‏مُصِيبُهَا‏}‏ خبره، والجملة خبر إن الذي اسمه ضمير الشأن، وفي «البحر» إن ‏{‏مُصِيبُهَا‏}‏ مبتدأ، و‏{‏مَا أصابهم‏}‏ خبره، والجملة خبر إن، ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون ‏{‏مُصِيبُهَا‏}‏ خبر إن و‏{‏مَا‏}‏ فاعل به لأنهم يجوزون أنه قائم أخواك، ومذهب البصريين أن ضمير الشأن لا يكون خبره إلا جملة مصرحاً بجزأيها فلا يجوز هذا الإعراب عندهم، والأولى ما ذكر أولاً؛ والجملة إما تعليل على طريقة الاستئناف أو خبر لامرأتك على قراءة الرفع، والمراد من ‏{‏مَا‏}‏ العذاب، ومن ‏{‏أَصَابَهُمُ‏}‏ يصيبهم والتعبيرية دونه للإيذان بتحقق الوقوع، وفي الإبهام‏.‏ واسمية الجملة‏.‏ والتأكيد ما لا يخفى‏.‏

‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح‏}‏ أي موعد عذابهم وهلاكهم ذلك، وكأن هذا على ما قيل‏:‏ تعليل للأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ‏}‏ تأكيد للتعليل، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع للتباعد عن مواقع العذاب، وروي أنه عليه السلام سأل الملائكة عليهم السلام عن وقت هلاكهم فقالوا‏:‏ موعدهم الصبح، فقال‏:‏ أريد أسرع من ذلك، فقالوا له‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ‏}‏‏.‏

ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذٍ أفظع ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين‏.‏

وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏الصبح‏}‏ بضم الباء قيل‏:‏ وهي لغة فلا يكون ذلك اتباعاً‏.‏